جمال شاكر الخطيب – باحث في التنمية السياسية
شغلت مسائل تنظيم الحياة منذ فجر التاريخ المفكرين، والسياسيين، ورجال الدين، والعامّة، وكل من طالته آثار الاجتهادات، والممارسات، والقوانين، والأنظمة، على مرِّ العصور، وعلى مرِّ النظم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدينية.
أي أن المعنِيّ هنا هو نحن جميعاً، ومن سبقنا من الآباء والأجداد. وهذا الإطار العام، بل والمتطرف في عموميته، يشير بصراحة تاريخيه إلى محطات يكاد لا يختلف فقهاء علم الاجتماع، والتاريخ، والفلسفة، والاقتصاد في أبسط أسسها ومركباتها: فهناك قوة ما تحكم، بهذا الشكل أو ذاك، وهناك قوةً تخضع، بهذا الشكل، أو ذاك أيضاً لأحكام الحاكمين، أو ترفض تلك الأحكام.
ولم يبخل الفلاسفة وعلماء الاجتماع، والساسة، والمفكرون، في العمل على صياغة أشكال للحكم، تؤمِّن في آنٍ معاً، العدالة، وإمكانية السيطرة على أمور الحياة، ومناحيها، بما فيها من خير وشر، وبما يوفر للإنسان – المواطن حداً يمكّنه من تفعيل طاقاته، وقدراته، في خدمة مجتمعه بشكل سوي وبكرامة.
ولكن هذه الصورة الجميلة المجرّدة لاقت، وتُلاقي، وستُلاقي على الأرجح، تحدياتِ الواقع المعاش الذي يثبت دون توقف، أن الحكماء والعباقرة، والفلاسفة لم يتبوّؤا السلطة.
من هذا المنظور العام، تطور المجتمع الإنساني، إلى ما نعرفه اليوم مجتمعاً إنسانياً معاصراً، صارت فيه الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، نقطة ارتكاز لا يمكن بدونها مجرد الحديث عن إنسان يعيش في دولة تضمن له حقوقه.
وخلال عقود مفعمة بالصراع، لأسباب قومية، أو استعمارية، أو توسعيّه، وشاهدها الأكبر القرن العشرون، وحرباه العالميتان، وعشرات ملايين قتلاه، تمكّنت الإنسانية، رغم ذلك، من تطوير أدواتها في مواجهة الحقائق المخجلة للاإنسانية الإنسان “في صراعه ضد اًخيه الإنسان”. وظهرت موجات واسعة، حاولت الرّد على امتهان الإنسان وكرامته وحريته.
وفي هذا السياق، ظهرت منظمات ما عاد يسمى بمنظمات المجتمع المدني، الذي هو في الحقيقة، وفي واقعه، مفهوم قديم، وإن لم يكن يُسمّى بهذا الاسم. فمنظمات الزكاة والأوقاف، وجمعيات البر والإحسان، هي منظمات مجتمع مدني راقية، لم تكن تعش يوماً على هبات السلطات، بل على المبادرة الإنسانية المخلصة، والواعية، للخيِّرين ذوي حس المسؤولية تجاه مجتمعهم وإنسانياتهم.
وبتطور الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وتَركُّبها، وتعقُّدها، فُرضت في الحياة المعاصرة أشكالٌ جديدة من النشاط الإنساني والديمقراطي، النازع إلى الحرية، واحترام حقوق الإنسان، والديمقراطية، من خارج السلطات الرسمية أو شبه الرسمية. وتشكَّل مجتمع جديد عنوانه منظمات المجتمع المدني. ولعل من المقبول احترام التقدير القائل إن منظمات المجتمع المدني هي منظمات غير خاضعة، مالياً، أو بحكم القرار، أو بحكم الخوف، أو بحكم الاعتبارات العشائرية، والطائفية، أو غيرها من أشكال التمييز بين إنسان وإنسان، وإنها منظمات ينتمي أعضاءها إليها طوعاً تأسيساً على قَيمٍ ومبادئ إنسانية غير تمييزية؛ من أجل خدمة الإنسان كونه إنساناً. وبهذا المعنى، لا يمكن لهذه المنظمات أن تفي بهذا الوعد إلا إذا كانت منظمات ديمقراطية، تنتخب هيئاتها، وتمارس أنشطتها بطريقة ديمقراطية حقاً، وصحيحة، وبشفافية عالية، ولا ترتهن لأجندات أخرى على حساب أجندتها الوطنية.