نحو فهم أعمق للدور الروسي الجديد … وقراءة في العقل البوتيني ( الحلقة 2)
إعداد : جمال الخطيب
في عام 1996 استدعي بوتين إلى موسكو للعمل في الكرملين. وفي 1998 عين على رأس جهاز “إف إس بي” الذي حل محل الكي جي بي، قبل أن يعينه الرئيس بوريس يلتسين بعد سنة رئيسا للوزراء، بحثا عن خلف قادر على ضمان أمنه بعد انسحابه من الحياة السياسية.وحين استقال يلتسين في نهاية 1999 وعين رئيس وزرائه خلفا له، كان بوتين فرض نفسه كرجل البلاد القوي الجديد. انتخب بوتين عام 2000 محققا فوزا سهلا، فسرع عملية الإمساك بالسلطة مستندا إلى الأجهزة السرية والشرطة والجيش من جهة، وإلى المقربين منه من سان بطرسبورغ منجهة أخرى.
وفي الاحتجاجات الشهيرة غير مسبوقة التي جرت في روسيا ،تحرك بوتين بصورة سريعة لضبط رجال الأعمال الذين حققوا ثروات طائلة في ظل عمليات الخصخصة المشبوهة التي جرت في التسعينات، فأقصاهم من اللعبة السياسية وسجن من قاومه منهم، مثل رئيس مجموعة “يوكوس” النفطية ميخائيل خودوركوفسكي الذي أطلق سراحه سنة 2013 بعدما أمضى عشر سنوات خلف القضبان.
نحو فهم أعمق للدور الروسي الجديد … وقراءة في العقل البوتيني ( الحلقة 3)
إعداد : جمال الخطيب
تزعم بوتين خلال السنوات الماضية مشروعًا لاستعادة المكانة القيادية لدولته في النظام العالمي، ومواجهة التمدد الغربي في مناطق النفوذ التقليدي التاريخي لموسكو. ولعل هذا ما دفع العديد من الأدبيات إلى الحديث عن مقاربة جديدة للسياسة الروسية تحت اسم “البوتينية”. وتستند إلى عدد من الأفكار الرئيسية، على غرار الرغبة في استعادة المجد التاريخي لروسيا، والتوسع في الفضاء الأوراسي، ومواجهة التدخل الخارجي في مناطق النفوذ الروسي عبر أدوات متعددة تقليدية وغير تقليدية، بما في ذلك الحرب المعلوماتية، فضلًا عن البُعد المحافظ في فكر “بوتين”.
وأبرز من كتب عن بوتين “ميشيل التشانينوف” في كتابه “داخل عقل فلاديمير بوتين” والتوجهات السياسية للرئيس الروسي، وأهم المكونات الفكرية لهذه التوجهات، والتي تجمع بدرجة ما بين الواقعية السياسية والأفكار المحافظة.
ففي التكوين الفكري لبوتين يصفه الكاتب باستخدام المرجعيات الفلسفية في خطاباته العامة، إلا أنه لا يصنفه كفيلسوف، إذ إن تكوينه العلمي والثقافي هو النمط الشائع في إطار المنظومة السوفيتية السابقة؛ فـ”بوتين” الذي درس القانون في جامعة سان بطرسبرج الحكومية، يفضل أن يتم تذكره من خلال تاريخه في جهاز الاستخبارات السوفيتية “الكي جي بي”، كما أنه عادة ما يفضل الأنشطة الجسدية على الكتب والفلسفة. ويعتبر رياضة الجودو التي يمارسها بمثابة الفلسفة الحقيقية، ولا سيما أنها “تعلمنا أن نستخدم ما لدينا، ونُقدّر ما نملكه، ومن ثم فهي قوة كافية لإسقاط الخصم”.
ويُضيف الكاتب أن هناك عوامل عديدة ساهمت في التكوين الفكري والعملي للرئيس الروسي، منها مرحلته الدراسية التي تعلم من خلالها أسماء ومذاهب المفكرين الرئيسيين، علاوة على ذلك؛ فإن سنوات عمله داخل جهاز الاستخبارات السوفيتية أعطته خبرة عملية أكبر. ومن ثم، يعتقد المؤلف أن “بوتين” يجسد الصفات المهنية للمنتسب إلى جهاز “الكي جي بي”، خصوصًا تلك المتعلقة بـ”مهارات العمل مع الناس، ومعرفة كيفية الاستماع، وكيفية الفهم”، وقد انعكس ذلك، بحسب الكتاب، في قدرة “بوتين” على كسب ثقة المتحاورين معه، والتكيف المطلوب للاستجابة معهم.
نحو فهم أعمق للدور الروسي الجديد … وقراءة في العقل البوتيني ( الحلقة 4)
إعداد : جمال الخطيب
أثرت القيم المجتمعية التي نشأ “بوتين” في كنفها في تكوينه الفكري واتجاهاته السياسية، ولعل أهم هذه القيم قيمة الانتماء الوطني، والثقافة العسكرية التي ظلت سائدة لعقود داخل الاتحاد السوفيتي السابق، إذ إن التعليم كان يتسم بالطابع العسكري، وكان الأطفال يضطرون لقراءة أدبيات الحرب كإعداد للتضحية بالنفس، وشكلت الخدمة العسكرية واحدة من أهم اللحظات في الحياة السوفيتية.وفي كتاب “التشانينوف” يقول في ذلك :أن ثمة مجموعة سياسية وفكرية ودينية تحيط بالرئيس الروسي وتؤثر بشكل أو بآخر في أفكاره وتوجهاته، والنسبة الأكبر ممن يعتمد عليهم “بوتين” في الحصول على المعلومات هم الأصدقاء والحلفاء من المنتمين إلى مجموعة سيلوفيكي (كلمة سوفيتية تعني السياسيون من الخدمات العسكرية والأمنية)، وغالبًا هم مثل “بوتين” من سان بطرسبرج. وتضم المجموعة المؤثرة في سياسات “بوتين” أسماء من قبيل “فلاديسلاف سوركوف”، الذي يرجع له الفضل في صياغة مفهوم “الديمقراطية السيادية”، ويعد خبيرًا في التقنيات السياسية، وهو مستشار لبوتين في الشئون الأوكرانية، و”ألكسندر بورتنيكوف” مدير هيئة الأمن الفيدرالية منذ عام 2008، و”ألكسندر باستريكين” رئيس لجنة التحقيق الروسية والخبير في علم الجريمة، و”إيغور سيتشين” الذي يترأس شركة “روس نفط” واعتبرته “فايننشال تايمز” في عام 2010 الرجل الثالث في السلطة بعد “بوتين” و”دميتري ميدفيديف” (رئيس الوزراء الحالي)، و”ديمتري روجوزين” نائب رئيس الوزراء، و”فلاديمير ياكونين” الذي كان يترأس هيئة السكك الحديدية حتى أغسطس 2015، وهو صديق للرئيس الروسي منذ سنوات طويلة. كما تضم المجموعة أشخاصًا من خارج الإطار السياسيي التقليدي، مثل مخرج الأفلام الشهير “نيكيتا ميخالكوف” الذي سعى عبر عقود من خلال أعماله إلى تجسيد فكرة ولادة “روسيا البيضاء” بعد سقوط الشيوعية، وكذلك رجل الدين الأب “تيخون شيفكونوف” الذي يحظى بتأثيرٍ ما على الرئيس الروسي.
نحو فهم أعمق للدور الروسي الجديد … وقراءة في العقل البوتيني ( الحلقة 5)
إعداد : جمال الخطيب
شكل التاريخ السوفيتي أحد القضايا الإشكالية للرئيس الروسي، ففي الوثيقة التي نشرها في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي بعنوان “روسيا عند منعطف الألفية”، حاول “بوتين” النأي بنفسه عن الماضي الشيوعي، وذكر أنه ضد ترميم أيديولوجيا الدولة الرسمية بأي شكل من الأشكال، بل حاول أن يطرح نفسه كنموذج ليبرالي مغاير لا يثير الكثير من الشكوك لدى الدول الغربية الأخرى.
ولكن بمرور الوقت، بدا أن موقف “بوتين” من التاريخ السوفيتي أكثر تعقيدًا، فهو وإن كان لا يُبدي حماسة كبيرة لاستعادة الأيديولوجيا الحاكمة للاتحاد السوفيتي السابق؛ إلا أنه كرس لسياسة الإنكار والتجاهل للتاريخ السلبي للاتحاد السوفيتي لتخفيف حدة الانتقادات لهذا التاريخ، ولا سيما حقبة “جوزيف ستالين”. فخطاب السلطة المراوغ يتجنب وصف الأعمال التي ارتكبها نظام “ستالين” بأنها جرائم، ويركز على وصفها بالأخطاء، ويتم تبريرها بالظروف السياسية وسياقات الحرب آنذاك.
صاغ “بوتين”، إطارًا لحماية التاريخ السوفيتي استنادًا إلى فكرة المصالحة الوطنية، والحفاظ على الاستقرار المجتمعي. وبالتالي رفض إطلاق أي مشاريع لإحياء الذاكرة، تستهدف فحص ومحاسبة التاريخ السوفيتي، حيث جادل بوتين “بأن البحث عن تاريخ الشيوعية لا يعني تنظيم عمليات للتطهير وملاحقة الناس على أساس أنهم كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي أو ربما عملوا في منظمات عسكرية مرتبطة بالحزب، لأن مثل هذا الأمر يمكن أن يزرع الفتنة في أنحاء المجتمع”.
نحو فهم أعمق للدور الروسي الجديد … وقراءة في العقل البوتيني ( الحلقة 6)
إعداد : جمال الخطيب
إن السياسة البوتينية من خلال تحليل لخطابات بوتين تنطوي على عددٍ من التوجهات حيث اختلفت مفرداته باختلاف وجهته، ويتمثل ذلك من خلال ما يلي :
– التوجّه المحافظ: سعى “بوتين” في بادئ الأمر إلى تقديم نفسه على أنه مصلح وليبرالي يطمح إلى التعاون مع الدول الغربية، بيد أنه بمرور الوقت تحول بصورة متزايدة نحو الأفكار المحافظة، وسرعان ما بدأ يتحدث عن فكرة روسيا التي تعتمد على التقاليد والقيم الأساسية، وخصوصًا القيم المسيحية. وتبلورت هذه الفلسفة بشكل كبير خلال فترته الرئاسية الثانية (2004-2008). ولكن ومع تزايد الهجمات الإرهابية، ، التي تتعرض لها روسيا تنامى استدعاء “بوتين” للمفردات الدينية كآلية لمواجهة التطرف. وفي هذا السياق، باتت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حليفة للرئيس الروسي في سياسته المجتمعية المحافظة. كما أن جزءًا من الطابع المحافظ لـ”بوتين” ارتبط بتعامله الحذر مع التكنولوجيا الحديثة، حيث إنه ذكر أنه لا يستخدم البريد الإلكتروني، وكثيرًا ما انتقد الإنترنت والمشكلات التي يطرحها. وفي عام 2013، أعرب عن أسفه لتراجع مستوى المعرفة العامة بسبب التطور السريع في التكنولوجيا. ولم يكتف بذلك، لكنه اعتمد بصورة متزايدة على أسلوب هجومي على المعارضين والرافضين لإعادة انتخابه، ووصفهم بارتكاب “الخيانة القومية”.
– طموحات القيادة: لم يُخفِ “بوتين” من رغبته في استعادة المكانة الروسية في النظام الدولي، واستحضر أدوات عديدة لتحقيق ذلك الأمر، البعض منها عسكري عبر ضمان السيطرة على مناطق النفوذ الحيوي لموسكو، والبعض الآخر وثيق الصلة بما يعرف بالنموذج الروسي، والذي ينطوي على قيم الوطنية والمسيحية الأرثوذكسية؛ ليعطي بذلك أهمية للمواقع المقدسة الأرثوذكسية الروسية، وعدّها من أدوات تأكيد الدور الروسي. وبموازاة ذلك، صاغ الرئيس الروسي شكلًا مختلفًا للديمقراطية، حيث باتت الديمقراطية الروسية تعني “قوة الشعب الروسي بتقاليده الخاصة للحكم الذاتي، وليس الوفاء بالمعايير المفروضة على روسيا من الخارج”.
نحو فهم أعمق للدور الروسي الجديد … وقراءة في العقل البوتيني ( الحلقة 7)
إعداد : جمال الخطيب
وفي هذا الصدد، تكتسب فكرة “العالم الروسي” أهمية متزايدة. وتستهدف بناء شبكة عالمية داعمة لموسكو ونفوذها. وتنطوي هذه الفكرة على ضرورة الاستفادة من المواطنين الروس في الشتات. وقد عبّر “بوتين” عن هذا في عام 2000 حينما أكد أهمية “حماية المواطنين الروس داخل البلاد وخارجها”. وسرعان ما سعى إلى تعزيز الروابط اللغوية والثقافية مع الشتات الروسي. بالإضافة إلى استحضاره دور الكنيسة، إذ اعتبر أن الوحدة بين بطريركية موسكو والكنيسة الأرثوذكسية في الخارج، التي تأسست كمؤسسة معارضة لخضوع الكنيسة للبلاشفة، شرط ضروري لتعزيز الوحدة للعالم الروسي بأسره.
ثالثًا- المجال الأوراسي: وهو المجال الذي يحظى باهتمام واضح لدى “بوتين” لاعتبارات عديدة، أهمها الرفض الأوروبي لدمج روسيا في المنظومة الأوروبية. علاوة على ذلك، يعتقد “بوتين” أن بلاده هي الدولة المحورية في أوراسيا، خصوصًا وأنها دولة واسعة متعددة الأعراق، وبالتالي فإنها تمثل صورة مصغرة لأوراسيا. ومن هذا المنطلق، شرع “بوتين” في بناء اتحاد اقتصادي أوراسي يهدف إلى التنافس مع القوى الاقتصادية الكبرى، ويعزز من النفوذ الروسي في الوقت ذاته، ويخدم مصالح روسيا ومساعيها نحو المشاركة في قيادة النظام الدولي.
رابعًا- إضعاف الخصوم: تتعاطى روسيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو على أنها قوة مناوئة لها تسعى إلى تقويض نفوذها. ووفقًا لدراسة مركز “بيو” للأبحاث في يونيو 2015، فإن 60% من الروس (ممن تم استطلاع آرائهم) لديهم وجهة نظر سلبية تجاه الاتحاد الأوروبي، و80% لديهم توجهات مثيلة تجاه حلف الناتو. كما يُرجع ثلث الروس تدهور الوضع الاقتصادي لبلادهم إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.
وعطفًا على هذه الرؤية، سعى “بوتين” إلى تنفيذ سياسة تستهدف إضعاف هذه القوى المناوئة له. فقد لجأ إلى القوة العسكرية لمواجهة ما اعتبره محاولة للتمدد الغربي في مناطق النفوذ التقليدي لبلاده، خاصة في جورجيا وأوكرانيا. كما لجأ إلى توسيع النفوذ الروسي في مناطق كانت خاضعة لنفوذ أمريكي متعاظم، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط التي باتت ساحة لاختبار القوة العسكرية الروسية في سوريا، حيث تدخلت لدعم نظام “بشار الأسد”. وبجانب ذلك، اندفعت موسكو نحو تدعيم قوى اليمين المحافظ في أوروبا. علاوة على التقارير التي تحدثت عن تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٦؛ لإضعاف الموقف الانتخابي لمرشحة الحزب الديمقراطي “هيلاري كلينتون”.
ويَخْلُصُ “التشانينوف” إلى أن السياسة الواقعية التي يتبناها “فلاديمير بوتين” ستظل المحدد الأهم للسياسة الروسية في ظل طموحاته باستعادة الدور القيادي لموسكو، والرد على ما يعتبره إهانات تاريخية تعرضت لها دولته من الدول الغربية. وربما يساعد في ذلك، التراجع في الدور الأمريكي بمناطق استراتيجية، على غرار منطقة الشرق الأوسط، والسياسات التي يتبناها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، والتي ساهمت في تزايد حدة الخلافات داخل الكتلة الغربية.